عم عاشور ( قصة قصيرة – من الأدب الساخر )
د. ناصر شافعي
عم عاشور , رجل شعبي كهل ضرير , خفيف الظل , سليط اللسان , صريح , جرئ و تلقائي , صديق لجميع أهل الحارة .. عاشق للشمس و الظل .. مكانه في الحارة دائم و معروف للجميع . يجلس على كرسي خشبي متهالك , أمام قهوة البشوات , التي لا يجلس عليها سوى العمال الغلابة ,وشباب البطالة , وأفقر فقراء الحارة الضيقة. يتناسوا هموم اليوم بدخان المعسل أو خبطات الدومينو أو ضربات حظ النرد , أو وسط نكات و قفشات فجة صارخة , مع حكايات و نوادر أهل الحارة البائسة .
في تمام السابعة صباحاً , يأتي عم عاشور من أحد أزقة الحارة الشعبية الفقيرة, يضع صينية البسبوسة فوق الحامل الخشبي . و يبدأ تجمع الأطفال و الشباب و الذباب حوله في سعادة و مرح . يغطي صينية الحلوى بغطاء من الشاش الأبيض الرمادي القذر . وعند الضرورة يضرب بفوطته الصفراء الهواء , ليصيب في مقتل ذباب يلهو .. أو يد طفل صغير يتظاهر بسرقة قطعة حلوى , فيجري في فزع !.
يصيح عم عاشور في بهجة ومرح و تفاخر , وكأنه يرى الحارة بكل مافيها من أشخاص و أحداث :
- أنا شايفك ياواد ياحسن .. حتطلع حرامي زي أبوك !
- ياأسطى حسين .. صباحك فل .. ربنا يفرجها إن شاء الله وتخلص من مراتك النكدية .. قول يارب !
- يا واد يا بلية .. المعسّل .. وواحد شاي في الخمسينة .. وسكر على قد ما تقدر .. جتك نيلة فيك و في اللي مشغلك !
صبي صغير يلقي عليه تحية الصباح قبل الذهاب للمدرسة : صباح الخير يا عم عاشور . يرد عليه عاشور في طيبة و حنان وأدب مصطنع :
- صباحك قشطة ياسيد .. خد حتة البسبوسة دي إفطر بيها .. والحساب عندي .. حأخده لما تبقى راجل و تكسب من عرق جبينك .. سلم لي على جدتك .
- أدعي لها يا عم عاشور .
- ربنا يديها الصحة , وياخدها منها تاني ! .. طول ماهى شغالة في الربا و الفايظ ربنا مش حيبارك لها أبداً .
- يا واد ياجمال .. أبوك الصرماتي مش ناوي يتجوز الرابعة ؟ .. حاكم ده لازم يتجوز جوزين !
وتهمس فتاة صغيرة :
- العسل قليل النهارده يا عم عاشور .
- كفاية العسل اللي عندك ياعسل !
- يا أسطى فتحي .. ربنا يسترها معاك و ما تتسرقش زي كل يوم .. ما أنت خايب زي جوز أمك !
- ربنا يفتحها عليك يافؤاد يابني .. بس لما تبطل تعاكس البنات والستات !
لا يكف عم عاشور عن تعليقاته الساخرة اللاذعة .. ولا تنقطع ضحكات و إبتسامات أهل الحارة . في خلال ساعة واحدة ينهي عم عاشور بيع البسبوسة . يحمل على كتفه الأيمن الحامل الخشبي .. ويحمل على رأسه الصينية الفارغة , يسندها بيده اليسرى .. و يختفي في أزقة الحارة الضيقة .
تمر الأيام و الشهور و السنوات .. ويبقى الحال على ما هو عليه . صباح الضحك والبهجة والسخرية من وعلى عم عاشور . يختفي عم عاشور أيا م قليلة متتالية .. ويبقى أهل الحارة في حيرة و قلق , يتسآلون : أين عم عاشور ؟
فجأة .. يظهر الرجل الكهل الضرير , يجر أمامه عربة يد خشبية , فوقها صندوق زجاجي مزركش , يضع بداخله أنواع مختلفة من الحلوى . ينطلق أهل الحارة في التصفيق و التهليل , ويتحد الصبية في التشجيع .. زغاريد النسوة تملأ الحارة في سعادة و فرح .. عاد عم عاشور ! . يرد الرجل التحية بإمتنان وتواضع .. واضعاً يديه فوق رأسه تارة .. و رافعاً كفيه إلى السماء تارة أخرى .. تصمت الحارة لحظات يتكلم فيها عم عاشور , ويقول : " هى دي التكنولوجيا والعولمة " .
انتهى .
د. ناصر شافعي
[b]